فصل: الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي مَعْرِفَةِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يَجُوزُ فِيهَا التَّفَاضُلُ وَلَا يَجُوزُ فِيهَا النَّسَاءُ وَتَبْيِينِ عِلَّةِ ذَلِكَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد ونهاية المقتصد (نسخة منقحة)



.الْفَصْلُ الْخَامِسُ فِي الْأَحْكَامِ اللَّازِمَةِ لِتَمَامِ اللِّعَانِ:

فَأَمَّا مُوجِبَاتُ اللِّعَانِ: فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا مِنْ ذَلِكَ فِي مَسَائِلَ:
مِنْهَا: هَلْ تَجِبُ الْفُرْقَةُ أَمْ لَا؟
وَإِنْ وَجَبَتْ فَمَتَى تَجِبُ؟
وَهَلْ تَجِبُ بِنَفْسِ اللِّعَانِ أَمْ بِحُكْمِ حَاكِمٍ؟
وَإِذَا وَقَعَتْ فَهَلْ هِيَ طَلَاقٌ أَوْ فَسْخٌ؟

.[المسألة الأولى]: [هل تقع الفرقة باللعان]:

فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ تَقَعُ بِاللِّعَانِ لِمَا اشْتَهَرَ مِنْ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثِ اللِّعَانِ «مِنْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا»، وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ فِيمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْهُ: فَكَانَتْ تِلْكَ سُنَّةَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا»، وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ، وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ: لَا يَعْقُبُ اللِّعَانَ فُرْقَةٌ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ لَمْ تَتَضَمَّنْهُ آيَةُ اللِّعَانِ، وَلَا هُوَ صَرِيحٌ فِي الْأَحَادِيثِ، لِأَنَّ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا بِحَضْرَةِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ اللِّعَانَ إِنَّمَا شُرِعَ لِدَرْءِ حَدِّ الْقَذْفِ، فَلَمْ يُوجِبْ تَحْرِيمًا تَشْبِيهًا بِالْبَيِّنَةِ. وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ بَيْنَهُمَا مِنَ التَّقَاطُعِ، وَالتَّبَاغُضِ، وَالتَّهَاتُرِ، وَإِبْطَالِ حُدُودِ اللَّهِ مَا أَوْجَبَ أَنْ لَا يَجْتَمِعَا بَعْدَهَا أَبَدًا، وَذَلِكَ أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ مَبْنَاهَا عَلَى الْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ وَهَؤُلَاءِ قَدْ عَدِمُوا ذَلِكَ كُلَّ الْعَدَمِ، وَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ عُقُوبَتُهُمَا الْفُرْقَةَ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْقُبْحُ الَّذِي بَيْنَهُمَا غَايَةُ الْقُبْحِ.

.[المسألة الثانية]: [متى تقع الفرقة]:

وَأَمَّا مَتَى تَقَعُ الْفُرْقَةُ في اللعان، فَقَالَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَجَمَاعَةٌ: إِنَّهَا تَقَعُ إِذَا فَرَغَا جَمِيعًا مِنَ اللِّعَانِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا أَكْمَلَ الزَّوْجُ لِعَانَهُ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَقَعُ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ. وَحُجَّةُ مَالِكٍ عَلَى الشَّافِعِيِّ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «فَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَقَالَ: حِسَابُكُمَا عَلَى اللَّهِ، أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ، لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا». وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا إِلَّا بَعْدَ تَمَامِ اللِّعَانِ. وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ لِعَانَهَا إِنَّمَا تَدْرَأُ بِهِ الْحَدَّ عَنْ نَفْسِهَا فَقَطْ، وَلِعَانُ الرَّجُلِ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي نَفْيِ النَّسَبِ، فَوَجَبَ إِنْ كَانَ لِلِّعَانِ تَأْثِيرٌ فِي الْفُرْقَةِ أَنْ يَكُونَ لِعَانُ الرَّجُلِ تَشْبِيهًا بِالطَّلَاقِ. وَحُجَّتُهُمَا جَمِيعًا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَهُمَا بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ عِنْدَ وُقُوعِ اللِّعَانِ مِنْهُمَا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ هُوَ سَبَبُ الْفُرْقَةِ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَيَرَى أَنَّ الْفِرَاقَ إِنَّمَا نَفَذَ بَيْنَهُمَا بِحُكْمِهِ وَأَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ حِينَ قَالَ: «لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا»، فَرَأَى أَنَّ حُكْمَهُ شَرْطٌ فِي وُقُوعِ الْفُرْقَةِ كَمَا أَنَّ حُكْمَهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ اللِّعَانِ. فَسَبَبُ الْخِلَافِ بَيْنَ مَنْ رَأَى أَنَّهُ تَقَعُ بِهِ الْفُرْقَةُ، وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَرَ ذَلِكَ أَنَّ تَفْرِيقَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا لَيْسَ هُوَ بَيِّنًا فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ، لِأَنَّهُ بَادَرَ بِنَفْسِهِ فَطَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يُخْبِرَهُ بِوُجُوبِ الْفُرْقَةِ، وَالْأَصْلُ أَنْ لَا فُرْقَةَ إِلَّا بِطَلَاقٍ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرْعِ تَحْرِيمٌ يَتَأَبَّدُ (أَعْنِي: مُتَّفَقًا عَلَيْهِ)، فَمَنْ غَلَّبَ هَذَا الْأَصْلَ عَلَى الْمَفْهُومِ لِاحْتِمَالِهِ نَفَى وُجُوبَ الْفُرْقَةِ قَالَ بِإِيجَابِهَا.

.[المسألة الثالثة]: [اشْتَراَطَ حُكْمَ الْحَاكِمِ بالفرقة في اللعان]:

وَأَمَّا سَبَبُ اخْتِلَافِ مَنِ اشْتَرَطَ حُكْمَ الْحَاكِمِ بالفرقة في اللعان، أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ فَتَرَدُّدُ هَذَا الْحُكْمِ بَيْنَ أَنْ يُغَلَّبَ عَلَيْهِ شَبَهُ الْأَحْكَامِ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهَا حُكْمُ الْحَاكِمِ، أَوِ الَّتِي لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِيهَا.

.وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ:[هل الفرقة فسخ أو طلاق]:

(وَهِيَ إِذَا قُلْنَا إِنَّ الْفُرْقَةَ تَقَعُ فَهَلْ ذَلِكَ فَسْخٌ أَوْ طَلَاقٌ؟
)، فَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِالْفُرْقَةِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: هُوَ فَسْخٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ طَلَاقٌ بَائِنٌ. وَحُجَّةُ مَالِكٍ تَأْبِيدُ التَّحْرِيمِ بِهِ فَأَشْبَهَ ذَاتَ الْمَحْرَمِ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَشَبَّهَهَا بِالطَّلَاقِ قِيَاسًا عَلَى فُرْقَةِ الْعِنِّينِ إِذْ كَانَتْ عِنْدَهُ بِحُكْمِ حَاكِمٍ.

.كِتَابُ الْإِحْدَادِ:

أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْإِحْدَادَ وَاجِبٌ عَلَى النِّسَاءِ الْحَرَائِرِ الْمُسْلِمَاتِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ إِلَّا الْحَسَنَ وَحْدَهُ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الزَّوْجَاتِ وَفِيمَا سِوَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَفِيمَا تَمْتَنِعُ الْحَادَّةُ مِنْهُ مِمَّا لَا تَمْتَنِعُ، فَقَالَ مَالِكٌ: الْإِحْدَادُ عَلَى الْمُسْلِمَةِ، وَالْكِتَابِيَّةِ وَالصَّغِيرَةِ، وَالْكَبِيرَةِ.
وَأَمَّا الْأَمَةُ يَمُوتُ عَنْهَا سَيِّدُهَا سَوَاءٌ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ أَمْ لَمْ تَكُنْ فَلَا إِحْدَادَ عَلَيْهَا عِنْدَهُ، وَبِهِ قَالَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ، وَخَالَفَ قَوْلَ مَالِكٍ الْمَشْهُورَ فِي الْكِتَابِيَّةِ ابْنُ نَافِعٍ وَأَشْهَبُ، وَرَوَيَاهُ عَنْ مَالِكٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ (أَعْنِي: أَنَّهُ لَا إِحْدَادَ عَلَى الْكِتَابِيَّةِ)، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ عَلَى الصَّغِيرَةِ، وَلَا عَلَى الْكِتَابِيَّةِ إِحْدَادٌ، وَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ عَلَى الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ إِحْدَادٌ، وَقَدْ حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، فَهَذَا هُوَ اخْتِلَافُهُمُ الْمَشْهُورُ فِيمَنْ عَلَيْهِ إِحْدَادٌ مِنْ أَصْنَافِ الزَّوْجَاتِ مِمَّنْ لَيْسَ عَلَيْهِ إِحْدَادٌ.
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ مِنْ قِبَلِ الْعَدَدِ فَإِنَّ مَالِكًا قَالَ: لَا إِحْدَادَ إِلَّا فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ: الْإِحْدَادُ فِي الْعِدَّةِ مِنَ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ وَاجِبٌ، وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَاسْتَحْسَنَهُ لِلْمُطَلَّقَةِ، وَلَمْ يُوجِبْهُ.
وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَا تَمْتَنِعُ الْحَادَّةُ مِنْهُ مِمَّا لَا تَمْتَنِعُ عَنْهُ:
فَإِنَّهَا تَمْتَنِعُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِالْجُمْلَةِ مِنَ الزِّينَةِ الدَّاعِيَةِ لِلرِّجَالِ إِلَى النِّسَاءِ، وَذَلِكَ كَالْحُلِيِّ وَالْكُحْلِ إِلَّا مَا لَمْ تَكُنْ فِيهِ زِينَةٌ وَلِبَاسُ الثِّيَابِ الْمَصْبُوغَةِ إِلَّا السَّوَادَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكْرَهْ مَالِكٌ لَهَا لُبْسَ السَّوَادِ، وَرَخَّصَ كُلُّهُمْ فِي الْكُحْلِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، فَبَعْضُهُمُ اشْتَرَطَ فِيهِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ زِينَةٌ، وَبَعْضُهُمْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ، وَبَعْضُهُمُ اشْتَرَطَ جَعْلَهُ بِاللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَأَقَاوِيلُ الْفُقَهَاءِ فِيمَا تَجْتَنِبُ الْحَادَّةُ مُتَقَارِبَةٌ، وَذَلِكَ مَا يُحَرِّكُ الرِّجَالَ بِالْجُمْلَةِ إِلَيْهِنَّ. وَإِنَّمَا صَارَ الْجُمْهُورُ لِإِيجَابِ الْإِحْدَادِ فِي الْجُمْلَةِ لِثُبُوتِ السُّنَّةِ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمِنْهَا حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنَيْهَا أَفَتَكْتَحِلُهُمَا؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا»، مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ لَهَا: «لَا»، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ»، وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: فَعَلَى هَذَا الْحَدِيثِ يَجِبُ التَّعْوِيلُ عَلَى الْقَوْلِ بِإِيجَابِ الْإِحْدَادِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أُمِّ حَبِيبَةَ حِينَ دَعَتْ بِالطِّيبِ فَمَسَحَتْ بِهِ عَارِضَيْهَا، ثُمَّ قَالَتْ: وَاللَّهِ مَالِي بِهِ مِنْ حَاجَةٍ غَيْرَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ مُؤْمِنَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تَحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا»، فَلَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ، لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ حَظْرٍ فَهُوَ يَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ دُونَ الْإِيجَابِ. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ. قَالَ الْقَاضِي: وَفِي الْأَمْرِ إِذَا وَرَدَ بَعْدَ الْحَظْرِ خِلَافٌ بَيْنَ الْمُتَكَلِّمِينَ (أَعْنِي: هَلْ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ أَوِ الْإِبَاحَةَ؟
). وَسَبَبُ الْخِلَافِ بَيْنَ مَنْ أَوْجَبَهُ عَلَى الْمُسْلِمَةِ دُونَ الْكَافِرَةِ أَنَّ مَنْ رَأَى أَنَّ الْإِحْدَادَ عِبَادَةٌ لَمْ يُلْزِمْهُ الْكَافِرَةَ، وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ مَعْنًى مَعْقُولٌ، وَهُوَ تَشَوُّفُ الرِّجَالِ إِلَيْهَا وَهِيَ إِلَى الرِّجَالِ، سَوَّى بَيْنَ الْكَافِرَةِ وَالْمُسْلِمَةِ، وَمَنْ رَاعَى تَشَوُّفَ الرِّجَالِ دُونَ تَشَوُّفِ النِّسَاءِ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ إِذَا كَانَتِ الصَّغِيرَةُ لَا يَتَشَوَّفُ الرِّجَالُ إِلَيْهَا. وَمِنْ حُجَّةِ مَنْ أَوْجَبَهُ عَلَى الْمُسْلِمَاتِ دُونَ الْكَافِرَاتِ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ»، قَالَ: وَشَرْطُهُ الْإِيمَانَ فِي الْإِحْدَادِ يَقْتَضِي أَنَّهُ عِبَادَةٌ.
وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْأَمَةِ وَالْحُرَّةِ وَكَذَلِكَ الْكِتَابِيَّةِ، فَلِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ أَوْجَبَتْ شَيْئَيْنِ بِاتِّفَاقٍ: أَحَدُهُمَا الْإِحْدَادُ، وَالثَّانِي تَرْكُ الْخُرُوجِ للمرأة المحدة، فَلَمَّا سَقَطَ تَرْكُ الْخُرُوجِ عَنِ الْأَمَةِ بِتَبَذُّلِهَا وَالْحَاجَةِ إِلَى اسْتِخْدَامِهَا سَقَطَ عَنْهَا مَنْعُ الزِّينَةِ.
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي الْمُكَاتَبَةِ فَمِنْ قِبَلِ تَرَدُّدِهَا بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ.
وَأَمَّا الْأَمَةُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَأُمُّ الْوَلَدِ، فَإِنَّمَا صَارَ الْجُمْهُورُ إِلَى إِسْقَاطِ الْإِحْدَادِ عَنْهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تَحِدَّ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ» فَعُلِمَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ أَنَّ مَنْ عَدَا ذَاتِ الزَّوْجِ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا إِحْدَادٌ. وَمَنْ أَوْجَبَهُ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا دُونَ الْمُطَلَّقَةِ فَتَعَلَّقَ بِالظَّاهِرِ الْمَنْطُوقِ بِهِ، وَمَنْ أَلْحَقَ الْمُطَلَّقَاتِ بِهِنَّ فَمِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَظْهَرُ مِنْ مَعْنَى الْإِحْدَادِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ أَنْ لَا تَتَشَوَّفَ إِلَيْهَا الرِّجَالُ فِي الْعِدَّةِ وَلَا تَتَشَوَّفُ هِيَ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ لِمَكَانِ حِفْظِ الْأَنْسَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. كَمُلَ كِتَابُ الطَّلَاقِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى آلَائِهِ، وَالشُّكْرُ عَلَى نِعَمِهِ، وَيَتْلُوهُ كِتَابُ الْبُيُوعِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

.كِتَابُ الْبُيُوعِ:

الْكَلَامُ فِي الْبُيُوعِ يَنْحَصِرُ فِي خَمْسِ جُمَلٍ:
فِي مَعْرِفَةِ أَنْوَاعِهَا.
وَفِي مَعْرِفَةِ شُرُوطِ الصِّحَّةِ فِي وَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنْهَا.
وَفِي مَعْرِفَةِ شُرُوطِ الْفَسَادِ.
وَفِي مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الْبُيُوعِ الصَّحِيحَةِ.
وَفِي مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ.
فَنَحْنُ نَذْكُرُ أَنْوَاعَ الْبُيُوعِ الْمُطْلَقَةِ، ثُمَّ نَذْكُرُ شُرُوطَ الْفَسَادِ وَالصِّحَّةِ فِي وَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَأَحْكَامُ بُيُوعِ الصِّحَّةِ، وَأَحْكَامُ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ. وَلَمَّا كَانَتْ أَسْبَابُ الْفَسَادِ وَالصِّحَّةِ فِي الْبُيُوعِ مِنْهَا عَامَّةٌ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْبُيُوعِ أَوْ لِأَكْثَرِهَا وَمِنْهَا خَاصَّةٌ، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي أَحْكَامِ الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ اقْتَضَى النَّظَرُ الصِّنَاعِيُّ أَنْ نَذْكُرَ الْمُشْتَرِكَ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ الْأَرْبَعَةِ (أَعْنِي: الْعَامَّ مِنْ أَسْبَابِ الْفَسَادِ وَأَسْبَابِ الصِّحَّةِ وَأَحْكَامِ الصِّحَّةِ وَأَحْكَامِ الْفَسَادِ لِجَمِيعِ الْبُيُوعِ)، ثُمَّ نَذْكُرُ الْخَاصَّ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ بِوَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنَ الْبُيُوعِ، فَيَنْقَسِمُ هَذَا الْكِتَابُ بِاضْطِرَارٍ إِلَى سِتَّةِ أَجْزَاءٍ:
الْجُزْءُ الْأَوَّلُ: تُعْرَفُ فِيهِ أَنْوَاعُ الْبُيُوعِ الْمُطْلَقَةِ.
وَالثَّانِي: تُعْرَفُ فِيهِ أَسْبَابُ الْفَسَادِ الْعَامَّةِ فِي الْبُيُوعِ الْمُطْلَقَةِ أَيْضًا (أَعْنِي: فِي كُلِّهَا أَوْ أَكْثَرِهَا) إِذْ كَانَتْ أَعْرَفَ مِنْ أَسْبَابِ الصِّحَّةِ.
الثَّالِثُ: تُعْرَفُ فِيهِ أَسْبَابُ الصِّحَّةِ فِي الْبُيُوعِ الْمُطْلَقَةِ أَيْضًا.
الرَّابِعُ: نَذْكُرُ فِيهِ أَحْكَامَ الْبُيُوعِ الصَّحِيحَةِ، (أَعْنِي: الْأَحْكَامَ الْمُشْتَرَكَةَ لِكُلِّ الْبُيُوعِ الصَّحِيحَةِ أَوْ لِأَكْثَرِهَا).
الْخَامِسُ: نَذْكُرُ فِيهِ أَحْكَامَ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ الْمُشْتَرَكَةِ (أَعْنِي: إِذَا وَقَعَتْ).
السَّادِسُ: نَذْكُرُ فِيهِ نَوْعًا نَوْعًا مِنَ الْبُيُوعِ بِمَا يَخُصُّهُ مِنَ الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ وَأَحْكَامِهَا.

.الْجُزْءُ الْأَوَّلُ أَنْوَاعُ الْبُيُوعِ الْمُطْلَقَةِ:

إِنَّ كُلَّ مُعَامَلَةٍ وُجِدَتْ بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ عَيْنًا بِعَيْنٍ، أَوْ عَيْنًا بِشَيْءٍ فِي الذِّمَّةِ، أَوْ ذِمَّةٍ بِذِمَّةٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ إِمَّا نَسِيئَةٌ وَإِمَّا نَاجِزٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ أَيْضًا إِمَّا نَاجِزٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ وَإِمَّا نَسِيئَةٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، وَإِمَّا نَاجِزٌ مِنَ الطَّرَفِ الْوَاحِدِ نَسِيئَةٌ مِنَ الطَّرَفِ الْآخَرِ، فَتَكُونُ كُلُّ أَنْوَاعِ الْبُيُوعِ تِسْعَةٌ. فَأَمَّا النَّسِيئَةُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ فَلَا يَجُوزُ بِإِجْمَاعٍ لَا فِي الْعَيْنِ وَلَا فِي الذِّمَّةِ، لِأَنَّهُ الدَّيْنُ بِالدَّيْنِ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ. وَأَسْمَاءُ هَذِهِ الْبُيُوعِ مِنْهَا مَا يَكُونُ مِنْ قِبَلِ صِفَةِ الْعَقْدِ وَحَالِ الْعَقْدِ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مِنْ قِبَلِ صِفَةِ الْعَيْنِ الْمَبِيعَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ عَيْنًا بِعَيْنٍ فَلَا تَخْلُو أَنْ تَكُونَ ثَمَنًا بِمَثْمُونٍ، أَوْ ثَمَنًا بِثَمَنٍ، فَإِنْ كَانَتْ ثَمَنًا بِثَمَنٍ سُمِّيَ صَرْفًا، وَإِنْ كَانَتْ ثَمَنًا بِمَثْمُونٍ سُمِّيَ بَيْعًا مُطْلَقًا وَكَذَلِكَ مَثْمُونًا بِمَثْمُونٍ عَلَى الشُّرُوطِ الَّتِي تُقَالُ بَعْدُ، وَإِنْ كَانَ عَيْنًا بِذِمَّةٍ سُمِّيَ سَلَمًا، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْخِيَارِ سُمِّيَ بَيْعَ خِيَارٍ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمُرَابَحَةِ سُمِّيَ بَيْعَ مُرَابَحَةٍ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمُزَايَدَةِ سُمِّيَ بَيْعَ مُزَايَدَةٍ.

.الْجُزْءُ الثَّانِي أَسْبَابُ الْفَسَادِ الْعَامَّةِ فِي الْبُيُوعِ الْمُطْلَقَةِ:

وَإِذَا اعْتُبِرَتِ الْأَسْبَابُ الَّتِي مِنْ قِبَلِهَا وَرَدَ النَّهْيُ الشَّرْعِيُّ فِي الْبُيُوعِ، (وَهِيَ أَسْبَابُ الْفَسَادِ الْعَامَّةُ) وُجِدَتْ أَرْبَعَةٌ:
أَحَدُهَا: تَحْرِيمُ عَيْنِ الْمَبِيعِ.
وَالثَّانِي: الرِّبَا.
وَالثَّالِثُ: الْغَرَرُ.
وَالرَّابِعُ: الشُّرُوطُ الَّتِي تَئُولُ إِلَى أَحَدِ هَذَيْنِ أَوْ لِمَجْمُوعِهِمَا.
وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ هِيَ بِالْحَقِيقَةِ أُصُولُ الْفَسَادِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا تَعَلَّقَ فِيهَا بِالْبَيْعِ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ بَيْعٌ لَا لِأَمْرٍ مِنْ خَارِجٍ.
وَأَمَّا الَّتِي وَرَدَ النَّهْيُ فِيهَا لِأَسْبَابٍ مِنْ خَارِجٍ، فَمِنْهَا الْغِشُّ، وَمِنْهَا الضَّرَرُ، وَمِنْهَا لِمَكَانِ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَقِّ بِمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْهُ، وَمِنْهَا لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةُ الْبَيْعِ.
فَفِي هَذَا الْجُزْءِ أَبْوَابٌ:

.الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي الْأَعْيَانِ الْمُحَرَّمَةِ الْبَيْعِ:

وَهَذِهِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: نَجَاسَاتٌ، وَغَيْرُ نَجَاسَاتٍ. فَأَمَّا بَيْعُ النَّجَاسَاتِ فَالْأَصْلُ فِي تَحْرِيمِهَا حَدِيثُ جَابِرٍ، ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَا بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُسْتَصْبَحُ بِهَا؟
فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتِ الشُّحُومُ عَلَيْهِمْ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا»
، وَقَالَ فِي الْخَمْرِ: «إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا». وَالنَّجَاسَاتُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: ضَرْبٌ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِهَا وَهِيَ الْخَمْرُ وَأَنَّهَا نَجِسَةٌ، إِلَّا خِلَافًا شَاذًّا فِي الْخَمْرِ (أَعْنِي: فِي كَوْنِهَا نَجِسَةً)، وَالْمَيْتَةُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا الَّتِي تَقْبَلُ الْحَيَاةَ، وَكَذَلِكَ الْخِنْزِيرُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ الَّتِي تَقْبَلُ الْحَيَاةَ. وَاخْتُلِفَ فِي الِانْتِفَاعِ بِشَعْرِهِ، فَأَجَازَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَمِنْهُ أَصْبَغُ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي (وَهِيَ النَّجَاسَاتُ الَّتِي تَدْعُو الضَّرُورَةُ إِلَى اسْتِعْمَالِهَا كَالرَّجِيعِ، وَالزِّبْلِ الَّذِي يُتَّخَذُ فِي الْبَسَاتِينِ)، فَاخْتُلِفَ فِي بَيْعِهَا فِي الْمَذْهَبِ، فَقِيلَ بِمَنْعِهَا مُطْلَقًا، وَقِيلَ بِإِجَازَتِهَا مُطْلَقًا، وَقِيلَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْعَذِرَةِ وَالزِّبْلِ (أَعْنِي: إِبَاحَةَ الزِّبْلِ وَمَنْعَ الْعَذِرَةِ). وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يُتَّخَذُ مِنْ أَنْيَابِ الْفِيلِ حكم بيعها لِاخْتِلَافِهِمْ هَلْ هُوَ نَجِسٌ أَمْ لَا؟
فَمَنْ رَأَى أَنَّهُ نَابٌ جَعَلَهُ مَيْتَةً، وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ قَرْنٌ مَعْكُوسٌ جَعَلَ حُكْمَهُ حُكْمَ الْقَرْنِ، وَالْخِلَافُ فِيهِ فِي الْمَذْهَبِ.
وَأَمَّا مَا حَرَّمَ بَيْعَهُ مِمَّا لَيْسَ بِنَجِسٍ أَوْ مُخْتَلَفٌ فِي نَجَاسَتِهِ، فَمِنْهَا الْكَلْبُ وَالسِّنَّوْرُ. أَمَّا الْكَلْبُ فَاخْتَلَفُوا فِي بَيْعِهِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ حكمه أَصْلًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ ذَلِكَ. وَفَرَّقَ أَصْحَابُ مَالِكٍ بَيْنَ كَلْبِ الْمَاشِيَةِ وَالزَّرْعِ الْمَأْذُونِ فِي اتِّخَاذِهِ، وَبَيْنَ مَا لَا يَجُوزُ اتِّخَاذُهُ، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَا لَا يَجُوزُ اتِّخَاذُهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ وَإِمْسَاكِهِ. فَأَمَّا مَنْ أَرَادَهُ لِلْأَكْلِ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَمَنْ أَجَازَ أَكْلَهُ أَجَازَ بَيْعَهُ، وَمَنْ لَمْ يُجِزْهُ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ حَبِيبٍ لَمْ يُجِزْ بَيْعَهُ. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي الْمَأْذُونِ فِي اتِّخَاذِهِ، فَقِيلَ هُوَ حَرَامٌ، وَقِيلَ مَكْرُوهٌ. فَأَمَّا الشَّافِعِيُّ، فَعُمْدَتُهُ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا ثُبُوتُ النَّهْيِ الْوَارِدِ عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ عَنِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالثَّانِي أَنَّ الْكَلْبَ عِنْدَهُ نَجِسُ الْعَيْنِ كَالْخِنْزِيرِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا دَلِيلَهُ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ.
وَأَمَّا مَنْ أَجَازَ فَعُمْدَتُهُ أَنَّهُ طَاهِرُ الْعَيْنِ غَيْرُ مُحَرَّمِ الْأَكْلِ، فَجَازَ بَيْعُهُ كَالْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ الْعَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ اسْتِدْلَالُ مَنْ رَأَى أَنَّهُ طَاهِرُ الْعَيْنِ، وَفِي كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ اسْتِدْلَالُ مَنْ رَأَى أَنَّهُ حَلَالٌ.
وَمَنْ فَرَّقَ أَيْضًا فَعُمْدَتُهُ أَنَّهُ غَيْرُ مُبَاحٍ لِلْأَكْلِ وَلَا مُبَاحٍ الِانْتِفَاعُ بِهِ، إِلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الْحَدِيثُ مِنْ كَلْبِ الْمَاشِيَةِ أَوْ كَلْبِ الزَّرْعِ حكم بيعه وَمَا فِي مَعْنَاهُ، وَرُوِيَتْ أَحَادِيثُ غَيْرُ مَشْهُورَةٍ اقْتَرَنَ فِيهَا بِالنَّهْيِ مِنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ اسْتِثْنَاءُ أَثْمَانِ الْكِلَابِ الْمُبَاحَةِ الِاتِّخَاذِ.
وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ ثَمَنِ السِّنَّوْرِ حكمه فَثَابِتٌ، وَلَكِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى إِبَاحَتِهِ لِأَنَّهُ طَاهِرُ الْعَيْنِ مُبَاحُ الْمَنَافِعِ. فَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْكِلَابِ تَعَارُضُ الْأَدِلَّةِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ اخْتِلَافُهُمْ فِي بَيْعِ الزَّيْتِ النَّجِسِ وَمَا ضَارَعَهُ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى تَحْرِيمِ أَكْلِهِ، فَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الزَّيْتِ النَّجِسِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ إِذَا بَيَّنَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَحُجَّةُ مَنْ حَرَّمَهُ حَدِيثُ جَابِرٍ الْمُتَقَدِّم: «أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَا الْخَمْرَ وَالْمَيْتَةَ وَالْخِنْزِيرَ». وَعُمْدَةُ مَنْ أَجَازَهُ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي الشَّيْءِ أَكْثَرُ مِنْ مَنْفَعَةٍ وَاحِدَةٍ وَحُرِّمَ مِنْهُ وَاحِدَةٌ مِنْ تِلْكَ الْمَنَافِعِ أَنَّهُ لَيْسَ يَلْزَمُهُ أَنْ يُحَرَّمَ مِنْهُ سَائِرُ الْمَنَافِعِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى الْمَنْفَعَةِ غَيْرِ الْمُحَرَّمَةِ كَالْحَاجَةِ إِلَى الْمُحَرَّمَةِ، فَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ هَذَا يَخْرُجُ مِنْهُ الْخَمْرُ وَالْمَيْتَةُ وَالْخِنْزِيرُ، وَبَقِيَتْ سَائِرُ مُحَرَّمَاتِ الْأَكْلِ عَلَى الْإِبَاحَةِ (أَعْنِي: أَنَّهُ إِنْ كَانَ فِيهَا مَنَافِعُ سِوَى الْأَكْلِ فَبِيعَتْ لِهَذَا) جَازَ، وَرَوَوْا عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمْ أَجَازُوا بَيْعَ الزَّيْتِ النَّجِسِ لِيُسْتَصْبَحَ بِهِ، وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ جَوَازُ الِاسْتِصْبَاحِ بِهِ وَعَمَلُ الصَّابُونِ مَعَ تَحْرِيمِ بَيْعِهِ، وَأَجَازَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا مَعَ تَحْرِيمِ ثَمَنِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ ضَعِيفٌ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ فِي الْمَذْهَبِ رِوَايَةً أُخْرَى تَمْنَعُ الِاسْتِصْبَاحَ بِهِ وَهُوَ أَلْزَمُ لِلْأَصْلِ (أَعْنِي: لِتَحْرِيمِ الْبَيْعِ). وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِي الْمَذْهَبِ فِي غَسْلِهِ وَطَبْخِهِ هَلْ هُوَ مُؤَثِّرٌ فِي عَيْنِ النَّجَاسَةِ وَمُزِيلٌ لَهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا جَوَازُ ذَلِكَ، وَالْآخَرُ مَنْعُهُ، وَهُمَا مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ الزَّيْتَ إِذَا خَالَطَتْهُ النَّجَاسَةُ هَلْ نَجَاسَتُهُ نَجَاسَةُ عَيْنٍ أَوْ نَجَاسَةُ مُجَاوَرَةٍ؟
فَمَنْ رَآهُ نَجَاسَةَ مُجَاوَرَةٍ طَهَّرَهُ عِنْدَ الْغَسْلِ وَالطَّبْخِ، وَمَنْ رَآهُ نَجَاسَةَ عَيْنٍ لَمْ يُطَهِّرْهُ عِنْدَ الطَّبْخِ وَالْغَسْلِ. وَمِنْ مَسَائِلِهِمُ الْمَشْهُورَةِ فِي هَذَا الْبَابِ اخْتِلَافُهُمْ فِي جَوَازِ بَيْعِ لَبَنِ الْآدَمِيَّةِ إِذَا حُلِبَ، فَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ يُجَوِّزَانِهِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يُجَوِّزُهُ. وَعُمْدَةُ مَنْ أَجَازَ بَيْعَهُ أَنَّهُ لَبَنٌ أُبِيحَ شُرْبُهُ فَأُبِيحَ بَيْعُهُ قِيَاسًا عَلَى لَبَنِ سَائِرِ الْأَنْعَامِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَرَى تَحْلِيلَهُ إِنَّمَا هُوَ لِمَكَانِ ضَرُورَةِ الطِّفْلِ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ مُحَرَّمٌ، إِذْ لَحْمُ ابْنِ آدَمَ مُحَرَّمٌ، وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْأَلْبَانَ تَابِعَةٌ لِلُّحُومِ، فَقَالُوا فِي قِيَاسِهِمْ هَكَذَا الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُ لَبَنِهِ، أَصْلُهُ لَبَنُ الْخِنْزِيرِ، وَالْأَتَانِ. فَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ تَعَارُضُ أَقْيِسَةِ الشَّبَهِ. وَفُرُوعُ هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ، وَإِنَّمَا نَذْكُرُ مِنَ الْمَسَائِلِ فِي كُلِّ بَابٍ الْمَشْهُورَ؛ لِيَجْرِيَ ذَلِكَ مَجْرَى الْأُصُولِ.

.الْبَابُ الثَّانِي: فِي بُيُوعِ الرِّبَا:

وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الرِّبَا يُوجَدُ فِي شَيْئَيْنِ: فِي الْبَيْعِ، وَفِيمَا تَقَرَّرَ فِي الذِّمَّةِ مِنْ بَيْعٍ، أَوْ سَلَفٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. فَأَمَّا الرِّبَا فِيمَا تَقَرَّرَ فِي الذِّمَّةِ فَهُوَ صِنْفَانِ: صِنْفٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَلِّفُونَ بِالزِّيَادَةِ وَيُنْظِرُونَ، فَكَانُوا يَقُولُونَ: أَنْظِرْنِي أَزِدْكَ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي عَنَاهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «أَلَا وَإِنَّ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُهُ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ».
وَالثَّانِي: «ضَعْ وَتَعَجَّلْ» وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَسَنَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ: وَأَمَّا الرِّبَا فِي الْبَيْعِ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ صِنْفَانِ: نَسِيئَةٌ، وَتَفَاضُلٌ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ إِنْكَارِهِ الرِّبَا فِي التَّفَاضُلِ لِمَا رَوَاهُ عَنِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا رِبَا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ». وَإِنَّمَا صَارَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الرِّبَا فِي هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ لِثُبُوتِ ذَلِكَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْكَلَامُ فِي الرِّبَا يَنْحَصِرُ فِي أَرْبَعَةِ فُصُولٍ:
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي مَعْرِفَةِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يَجُوزُ فِيهَا التَّفَاضُلُ، وَلَا يَجُوزُ فِيهَا النَّسَاءُ، وَتَبَيَّنَ عِلَّةُ ذَلِكَ.
الثَّانِي: مَعْرِفَةُ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا التَّفَاضُلُ وَلَا يَجُوزُ فِيهَا النَّسَاءُ.
الثَّالِثُ: فِي مَعْرِفَةِ مَا يَجُوزُ فِيهِ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا.
الرَّابِعُ: فِي مَعْرِفَةِ مَا يُعَدُّ صِنْفًا وَاحِدًا مِمَّا لَا يُعَدُّ صِنْفًا وَاحِدًا.

.الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي مَعْرِفَةِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يَجُوزُ فِيهَا التَّفَاضُلُ وَلَا يَجُوزُ فِيهَا النَّسَاءُ وَتَبْيِينِ عِلَّةِ ذَلِكَ:

فَنَقُولُ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ التَّفَاضُلَ وَالنَّسَاءَ مِمَّا لَا يَجُوزُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فِي الصِّنْفِ الْوَاحِدِ مِنَ الْأَصْنَافِ الَّتِي نُصَّ عَلَيْهَا فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، إِلَّا مَا حُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحَدِيثُ عُبَادَةَ هُوَ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحِ بِالْمِلْحِ إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ عَيْنًا بِعَيْنٍ، فَمَنْ زَادَ أَوِ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى»، فَهَذَا الْحَدِيثُ نَصٌّ فِي مَنْعِ التَّفَاضُلِ فِي الصِّنْفِ الْوَاحِدِ مِنْ هَذِهِ الْأَعْيَانِ.
وَأَمَّا مَنْعُ النَّسِيئَةِ فِيهَا فَثَابِتٌ مِنْ غَيْرِ مَا حَدِيثٍ، أَشْهَرُهَا حَدِيثُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ رِبًا، إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ». فَتَضَمَّنَ حَدِيثُ عُبَادَةَ مَنْعُ التَّفَاضُلِ فِي الصِّنْفِ الْوَاحِدِ، وَتَضَمَّنَ أَيْضًا حَدِيثُ عُبَادَةَ مَنْعَ النَّسَاءِ فِي الصِّنْفَيْنِ مِنْ هَذِهِ، وَإِبَاحَةَ التَّفَاضُلِ، وَذَلِكَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ فِيهَا بَعْدَ ذِكْرِهِ مَنْعَ التَّفَاضُلِ فِي تِلْكَ السِّتَّةِ «وَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ، وَالْبُرَّ بِالشَّعِيرِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ» وَهَذَا كُلُّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ إِلَّا الْبُرَّ بِالشَّعِيرِ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَى هَذِهِ السِّتَّةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا، فَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمْ أَهْلُ الظَّاهِرِ: إِنَّمَا يَمْتَنِعُ التَّفَاضُلُ فِي صِنْفٍ صِنْفٍ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ فَقَطْ، وَأَنَّ مَا عَدَاهَا لَا يَمْتَنِعُ الصِّنْفُ الْوَاحِدُ، مِنْهَا التَّفَاضُلُ، وَقَالَ هَؤُلَاءِ أَيْضًا: إِنَّ النَّسَاءَ مُمْتَنِعٌ فِي هَذِهِ السِّتَّةِ أَيْضًا فَقَط، اتَّفَقَتِ الْأَصْنَافُ أَوِ اخْتَلَفَتْ، وَهَذَا أَمْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (أَعْنِي: امْتِنَاعَ النَّسَاءِ فِيهَا مَعَ اخْتِلَافِ الْأَصْنَافِ)، إِلَّا مَا حُكِيَ عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا اخْتَلَفَ الصِّنْفَانِ جَازَ التَّفَاضُلُ وَالنَّسِيئَةُ مَا عَدَا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ. فَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا النَّهْيَ الْمُتَعَلِّقَ بِأَعْيَانِ هَذِهِ السِّتَّةِ مِنْ بَابِ الْخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ.
وَأَمَّا الْجُمْهُورُ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ الْعَامُّ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَعْنَى الْعَامِّ الَّذِي وَقَعَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْأَصْنَافِ (أَعْنِي: فِي مَفْهُومِ عِلَّةِ التَّفَاضُلِ وَمَنْعِ النَّسَاءِ فِيهَا). فَالَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ حُذَّاقُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ سَبَبَ مَنْعِ التَّفَاضُلِ: أَمَّا فِي الْأَرْبَعَةِ: فَالصِّنْفُ الْوَاحِدُ مِنَ الْمُدَّخَرِ الْمُقْتَاتِ، وَقَدْ قِيلَ الصِّنْفُ الْوَاحِدُ الْمُدَّخَرُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُقْتَاتًا، وَمِنْ شَرْطِ الِادِّخَارِ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَكْثَرِ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: الرِّبَا فِي الصِّنْفِ الْمُدَّخَرِ، وَإِنْ كَانَ نَادِرَ الِادِّخَارِ.
وَأَمَّا الْعِلَّةُ عِنْدَهُمْ فِي مَنْعِ التَّفَاضُلِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَهُوَ الصِّنْفُ الْوَاحِدُ أَيْضًا مَعَ كَوْنِهِمَا رُءُوسًا لِلْأَثْمَانِ وَقِيَمًا لِلْمُتْلَفَاتِ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ هِيَ الَّتِي تُعْرَفُ عِنْدَهُمْ بِالْقَاصِرَةِ، لِأَنَّهَا غَيْرُ مَوْجُودَةٍ عِنْدَهُمْ فِي غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
وَأَمَّا عِلَّةُ مَنْعِ النَّسَاءِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْأَرْبَعَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا فَهُوَ الطُّعْمُ وَالِادِّخَارُ دُونَ اتِّفَاقِ الصِّنْفِ، وَلِذَلِكَ إِذَا اخْتَلَفَتْ أَصْنَافُهَا جَازَ عِنْدَهُمُ التَّفَاضُلُ دُونَ النَّسِيئَةِ، وَلِذَلِكَ يَجُوزُ التَّفَاضُلُ عِنْدَهُمْ فِي الْمَطْعُومَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ مُدَّخَرَةً (أَعْنِي: فِي الصِّنْفِ الْوَاحِدِ مِنْهَا)، وَلَا يَجُوزُ النَّسَاءُ. أَمَّا جَوَازُ التَّفَاضُلِ، فَلِكَوْنِهَا لَيْسَتْ مُدَّخَرَةً، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الِادِّخَارَ شَرْطٌ فِي تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِي الصِّنْفِ الْوَاحِدِ.
وَأَمَّا مَنْعُ النَّسَاءِ فِيهَا فَلِكَوْنِهَا مَطْعُومَةً مُدَّخَرَةً، وَقَدْ قُلْنَا إِنَّ الطُّعْمَ بِإِطْلَاقٍ عِلَّةٌ لِمَنْعِ النَّسَاءِ فِي الْمَطْعُومَاتِ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ: فَعِلَّةُ مَنْعِ التَّفَاضُلِ عِنْدَهُمْ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ هُوَ الطُّعْمُ فَقَطْ مَعَ اتِّفَاقِ الصِّنْفِ الْوَاحِدِ.
وَأَمَّا عِلَّةُ النَّسَاءِ فَالطُّعْمُ دُونَ اعْتِبَارِ الصِّنْفِ مِثْلُ قَوْلِ مَالِكٍ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَعِلَّةُ مَنْعِ التَّفَاضُلِ عِنْدَهُمْ فِي السِّتَّةِ وَاحِدَةٌ وَهُوَ الْكَيْلُ، أَوِ الْوَزْنُ مَعَ اتِّفَاقِ الصِّنْفِ، وَعِلَّةُ النَّسَاءِ فِيهَا اخْتِلَافُ الصِّنْفِ مَا عَدَا النُّحَاسَ وَالذَّهَبَ، فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ فِيهَا النَّسَاءُ، وَوَافَقَ الشَّافِعِيُّ مَالِكًا فِي عِلَّةِ مَنْعِ التَّفَاضُلِ وَالنَّسَاءِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، (أَعْنِي: أَنَّ كَوْنَهُمَا رُءُوسًا لِلْأَثْمَانِ وَقِيَمًا لِلْمُتْلَفَاتِ هُوَ عِنْدَهُمْ عِلَّةُ مَنْعِ النَّسِيئَةِ إِذَا اخْتَلَفَ الصِّنْفُ، فَإِذَا اتَّفَقَا مُنِعَ التَّفَاضُلُ)، وَالْحَنَفِيَّةُ تَعْتَبِرُ فِي الْمَكِيلِ قَدْرًا يَتَأَتَّى فِيهِ الْكَيْلُ، وَسَيَأْتِي أَحْكَامُ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ بِمَا يَخُصُّهَا فِي كِتَابِ الصَّرْفِ، وَأَمَّا هَاهُنَا فَالْمَقْصُودُ هُوَ تَبْيِينُ مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ فِي عِلَلِ الرِّبَا الْمُطْلَقِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَذِكْرُ عُمْدَةِ دَلِيلِ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ، فَنَقُولُ: إِنَّ الَّذِينَ قَصَرُوا صِنْفَ الرِّبَا عَلَى هَذِهِ الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ فَهُمْ أَحَدُ صِنْفَيْنِ: إِمَّا قَوْمٌ نَفَوُا الْقِيَاسَ فِي الشَّرْعِ (أَعْنِي: اسْتِنْبَاطَ الْعِلَلِ مِنَ الْأَلْفَاظِ)، وَهُمُ الظَّاهِرِيَّةُ، وَإِمَّا قَوْمٌ نَفَوْا قِيَاسَ الشَّبَهِ، وَذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ مَنْ أَلْحَقَ الْمَسْكُوتَ هَاهُنَا بِالْمَنْطُوقِ بِهِ، فَإِنَّمَا أَلْحَقَهُ بِقِيَاسِ الشَّبَهِ لَا بِقِيَاسِ الْعِلَّةِ، إِلَّا مَا حُكِيَ عَنِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ أَنَّهُ اعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ الْمَالِيَّةَ، وَقَالَ: عِلَّةُ مَنْعِ الرِّبَا إِنَّمَا هِيَ حِيَاطَةُ الْأَمْوَالِ، يُرِيدُ مَنْعَ الْعَيْنِ.
وَأَمَّا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ فَلَمَّا كَانَ قِيَاسُ الشَّبَهِ عِنْدَهُ ضَعِيفًا، وَكَانَ قِيَاسُ الْمَعْنَى عِنْدَهُ أَقْوَى مِنْهُ اعْتَبَرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قِيَاسَ الْمَعْنَى، إِذْ لَمْ يَتَأَتَّ لَهُ قِيَاسُ عِلَّةٍ، فَأَلْحَقَ الزَّبِيبَ فَقَطْ بِهَذِهِ الْأَصْنَافِ الْأَرْبَعَةِ، لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ فِي مَعْنَى التَّمْرِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ (أَعْنِي: مِنَ الْقَائِسِينَ) دَلِيلٌ فِي اسْتِنْبَاطِ الشَّبَهِ الَّذِي اعْتَبَرَهُ فِي إِلْحَاقِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِالْمَنْطُوقِ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ: وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ: فَإِنَّهُمْ قَالُوا فِي تَثْبِيتِ عِلَّتِهِمُ الشِّبَهِيَّةِ: إِنَّ الْحُكْمَ إِذَا عُلِّقَ بِاسْمٍ مُشْتَقٍّ دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي اشْتُقَّ مِنْهُ الِاسْمُ هُوَ عِلَّةُ الْحُكْمِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}، فَلَمَّا عَلَّقَ الْحُكْمَ بِالِاسْمِ الْمُشْتَقِّ وَهُوَ السَّارِقُ عُلِمَ أَنَّ الْحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ بِنَفْسِ السَّرِقَةِ. قَالُوا: وَإِذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا، وَكَانَ قَدْ جَاءَ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْلٍ». فَمِنَ الْبَيِّنِ أَنَّ الطُّعْمَ هُوَ الَّذِي عُلِّقَ بِهِ الْحُكْمُ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَإِنَّهَا زَادَتْ عَلَى الطُّعْمِ إِمَّا صِفَةً وَاحِدَةً وَهُوَ الْادِّخَارُ عَلَى مَا فِي الْمُوَطَّإِ، وَإِمَّا صِفَتَيْنِ وَهُوَ الْادِّخَارُ وَالِاقْتِيَاتُ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْبَغْدَادِيُّونَ، وَتَمَسَّكْتُ فِي اسْتِنْبَاطِ هَذِهِ الْعِلَّةِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الطُّعْمُ وَحْدَهُ لَاكْتَفَى بِالتَّنْبِيهِ عَلَى ذَلِكَ بِالنَّصِّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ الْمَذْكُورَةِ، فَلَمَّا ذَكَرَ مِنْهَا عَدَدًا عُلِمَ أَنَّهُ قَصَدَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا التَّنْبِيهَ عَلَى مَا فِي مَعْنَاهُ، وَهِيَ كُلُّهَا يَجْمَعُهَا الِاقْتِيَاتُ وَالِادِّخَارُ. أَمَّا الْبُرُّ وَالشَّعِيرُ فَنَبَّهَ بِهِمَا عَلَى أَصْنَافِ الْحُبُوبِ الْمُدَّخَرَةِ، وَنَبَّهَ بِالتَّمْرِ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْحَلَاوَاتِ الْمُدَّخَرَةِ كَالسُّكَّرِ، وَالْعَسَلِ، وَالزَّبِيبِ، وَنَبَّهَ بِالْمِلْحِ عَلَى جَمِيعِ التَّوَابِلِ الْمُدَّخَرَةِ لِإِصْلَاحِ الطَّعَامِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ قَالُوا: لَمَّا كَانَ مَعْقُولُ الْمَعْنَى فِي الرِّبَا إِنَّمَا هُوَ أَنْ لَا يَغْبِنَ بَعْضُ النَّاسِ بَعْضًا وَأَنْ تُحْفَظَ أَمْوَالُهُمْ، فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْمَعَايِشِ وَهِيَ الْأَقْوَاتُ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَعُمْدَتُهُمْ فِي اعْتِبَارِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا عَلَّقَ التَّحْلِيلَ بِاتِّفَاقِ الصِّنْفِ، وَاتِّفَاقِ الْقَدْرِ، وَعَلَّقَ التَّحْرِيمَ بِاتِّفَاقِ الصِّنْفِ وَاخْتِلَافِ الْقَدْرِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَامِلِهِ بِخَيْبَرَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَغَيْرِهِ: «إِلَّا كَيْلًا بِكَيْلٍ، يَدًا بِيَدٍ»، رَأَوْا أَنَّ التَّقْدِيرَ (أَعْنِي: الْكَيْلَ، أَوِ الْوَزْنَ) هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ كَتَأْثِيرِ الصِّنْفِ، وَرُبَّمَا احْتَجُّوا بِأَحَادِيثَ لَيْسَتْ مَشْهُورَةً فِيهَا تَنْبِيهٌ قَوِيٌّ عَلَى اعْتِبَارِ الْكَيْلِ، أَوِ الْوَزْنِ. مِنْهَا: أَنَّهُمْ رَوَوْا فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الْمُتَضَمِّنَةِ الْمُسَمَّيَاتِ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ زِيَادَةً، وَهِيَ: «كَذَلِكَ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ»، وَفِي بَعْضِهَا: «وَكَذَلِكَ الْمِكْيَالُ وَالْمِيزَانُ»، هَذَا نَصٌّ لَوْ صَحَّتِ الْأَحَادِيثُ، وَلَكِنْ إِذَا تُؤُمِّلَ الْأَمْرُ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى ظَهَرَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ عِلَّتَهُمْ أَوْلَى الْعِلَلِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَظْهَرُ مِنَ الشَّرْعِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِتَحْرِيمِ الرِّبَا إِنَّمَا هُوَ لِمَكَانِ الْغَبْنِ الْكَثِيرِ الَّذِي فِيهِ، وَأَنَّ الْعَدْلَ فِي الْمُعَامَلَاتِ إِنَّمَا هُوَ مُقَارَبَةُ التَّسَاوِي، وَلِذَلِكَ لَمَّا عَسُرَ إِدْرَاكُ التَّسَاوِي فِي الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ الذَّوَاتِ جُعِلَ الدِّينَارُ وَالدِّرْهَمُ لِتَقْوِيمِهَا (أَعْنِي: تَقْدِيرَهَا)، وَلَمَّا كَانَتِ الْأَشْيَاءُ الْمُخْتَلِفَةُ الذَّوَاتِ (أَعْنِي: غَيْرَ الْمَوْزُونَةِ وَالْمَكِيلَةِ) الْعَدْلُ فِيهَا إِنَّمَا هُوَ فِي وُجُودِ النِّسْبَةِ (أَعْنِي: أَنْ تَكُونَ نِسْبَةُ قِيمَةِ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ إِلَى جِنْسِهِ نِسْبَةَ قِيمَةِ الشَّيْءِ لِآخَرَ إِلَى جِنْسِهِ)، مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّ الْعَدْلَ إِذَا بَاعَ إِنْسَانٌ فَرَسًا بِثِيَابٍ هُوَ أَنْ تَكُونَ نِسْبَةُ قِيمَةِ ذَلِكَ الْفَرَسِ إِلَى الْأَفْرَاسِ هِيَ نِسْبَةُ قِيمَةِ ذَلِكَ الثَّوْبِ إِلَى الثِّيَابِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْفَرَسُ قِيمَتُهُ خَمْسُونَ فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الثِّيَابُ قِيمَتُهَا خَمْسُونَ، فَلْيَكُنْ مَثَلًا الَّذِي يُسَاوِي هَذَا الْقَدْرَ عَدَدُهَا هُوَ عَشَرَةُ أَثْوَابٍ، فَإِذًا اخْتِلَافُ هَذِهِ الْمَبِيعَاتِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ فِي الْعَدَدِ وَاجِبَةٌ فِي الْمُعَامَلَةِ الْعَدَالَةُ، (أَعْنِي: أَنْ يَكُونَ عَدِيلُ فَرَسٍ عَشَرَةَ أَثْوَابٍ فِي الْمِثْلِ).
وَأَمَّا الْأَشْيَاءُ الْمَكِيلَةُ وَالْمَوْزُونَةُ: فَلَمَّا كَانَتْ لَيْسَتْ تَخْتَلِفُ كُلَّ الِاخْتِلَافِ، وَكَانَتْ مَنَافِعُهَا مُتَقَارِبَةً وَلَمْ تَكُنْ حَاجَةً ضَرُورِيَّةً لِمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهَا صِنْفٌ أَنْ يَسْتَبْدِلَهُ بِذَلِكَ الصِّنْفِ بِعَيْنِهِ إِلَّا عَلَى جِهَةِ السَّرَفِ؛ كَانَ الْعَدْلُ فِي هَذَا إِنَّمَا هُوَ بِوُجُودِ التَّسَاوِي فِي الْكَيْلِ، أَوِ الْوَزْنِ إِذْ كَانَتْ لَا تَتَفَاوَتُ فِي الْمَنَافِعِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ مَنْعَ التَّفَاضُلِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يُوجِبُ أَنْ لَا يَقَعَ فِيهَا تَعَامُلٌ لِكَوْنِ مَنَافِعِهَا غَيْرَ مُخْتَلِفَةٍ، وَالتَّعَامُلُ إِنَّمَا يُضْطَرُّ إِلَيْهِ فِي الْمَنَافِعِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَإِذَا مُنِعَ التَّفَاضُلُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ (أَعْنِي الْمَكِيلَةَ، وَالْمَوْزُونَةَ) عِلَّتَانِ: إِحْدَاهُمَا وُجُودُ الْعَدْلِ فِيهَا، وَالثَّانِيَةُ مَنْعُ الْمُعَامَلَةِ إِذَا كَانَتِ الْمُعَامَلَةُ بِهَا مِنْ بَابِ السَّرَفِ.
وَأَمَّا الدِّينَارُ وَالدِّرْهَمُ فَعِلَّةُ الْمَنْعِ فِيهَا أَظْهَرُ إِذْ كَانَتْ هَذِهِ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا الرِّبْحُ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ بِهَا تَقْدِيرُ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَهَا مَنَافِعُ ضَرُورِيَّةٌ. رَوَى مَالِكٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّهُ كَانَ يَعْتَبِرُ فِي عِلَّةِ الرِّبَا فِي هَذِهِ الْأَصْنَافِ الْكَيْلَ وَالطُّعْمَ، وَهُوَ مَعْنًى جَيِّدٌ لِكَوْنِ الطُّعْمِ ضَرُورِيًّا فِي أَقْوَاتِ النَّاسِ، فَإِنَّهُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ حِفْظُ الْعَيْنِ وَحِفْظُ السَّرَفِ فِيمَا هُوَ قُوتٌ أَهَمَّ مِنْهُ فِيمَا لَيْسَ هُوَ قُوتًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ أَنَّهُ اعْتَبَرَ فِي الرِّبَا الْأَجْنَاسَ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ، وَعَنْ بَعْضِهِمُ الِانْتِفَاعَ مُطْلَقًا (أَعْنِي: الْمَالِيَّةَ)، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ.

.الْفَصْلُ الثَّانِي فِي مَعْرِفَةِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا التَّفَاضُلُ وَلَا يَجُوزُ فِيهَا النَّسَاءُ:

فَيَجِبُ مِنْ هَذَا أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ امْتِنَاعِ النَّسِيئَةِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ هِيَ الطُّعْمُ عِنْدَ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ.
وَأَمَّا فِي غَيْرِ الرِّبَوِيَّاتِ مِمَّا لَيْسَ بِمَطْعُومٍ، فَإِنَّ عِلَّةَ مَنْعِ النَّسِيئَةِ فِيهِ عِنْدَ مَالِكٍ هُوَ الصِّنْفُ الْوَاحِدُ الْمُتَّفِقُ الْمَنَافِعِ مَعَ التَّفَاضُلِ، وَلَيْسَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ نَسِيئَةٌ فِي غَيْرِ الرِّبَوِيَّاتِ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَعِلَّةُ مَنْعِ النَّسَاءِ عِنْدَهُ هُوَ الْكَيْلُ فِي الرِّبَوِيَّاتِ وَفِي غَيْرِ الرِّبَوِيَّاتِ الصِّنْفُ الْوَاحِدُ مُتَفَاضِلًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُتَفَاضِلٍ، وَقَدْ يَظْهَرُ مِنَ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَمْنَعُ النَّسِيئَةَ فِي هَذِهِ، لِأَنَّهُ عِنْدَهُ مِنْ بَابِ السَّلَفِ الَّذِي يَجُرُّ مَنْفَعَةً.

.الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي مَعْرِفَةِ مَا يَجُوزُ فِيهِ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا:

وَأَمَّا مَا يَجُوزُ فِيهِ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا (أَعْنِي: التَّفَاضُلَ وَالنَّسَاءَ، فَمَا لَمْ يَكُنْ رِبَوِيًّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ).
وَأَمَّا عِنْدَ مَالِكٍ فَمَا لَمْ يَكُنْ رِبَوِيًّا وَلَا كَانَ صِنْفًا وَاحِدًا مُتَمَاثِلًا، أَوْ صِنْفًا وَاحِدًا بِإِطْلَاقٍ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ يُعْتَبَرُ فِي الصِّنْفِ الْمُؤَثِّرِ فِي التَّفَاضُلِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ، وَفِي النَّسَاءِ فِي غَيْرِ الرِّبَوِيَّاتِ اتِّفَاقُ الْمَنَافِعِ، وَاخْتِلَافُهَا، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ جَعَلَهَا صِنْفَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الِاسْمُ وَاحِدًا، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَعْتَبِرُ الِاسْمَ وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ، وَإِنْ كَانَ الشَّافِعِيُّ لَيْسَ الصِّنْفُ عِنْدَهُ مُؤَثِّرًا إِلَّا فِي الرِّبَوِيَّاتِ فَقَطْ (أَعْنِي: أَنَّهُ يَمْنَعُ التَّفَاضُلَ فِيهِ)، وَلَيْسَ هُوَ عِنْدَهُ عِلَّةً لِلنَّسَاءِ أَصْلًا، فَهَذَا هُوَ تَحْصِيلُ مَذَاهِبِ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءِ الثَّلَاثَةِ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ الثَّلَاثِ. فَأَمَّا الْأَشْيَاءُ الَّتِي لَا تَجُوزُ فِيهَا النَّسِيئَةُ فَإِنَّهَا قِسْمَانِ: مِنْهَا مَا لَا يَجُوزُ فِيهَا التَّفَاضُلُ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَمِنْهَا مَا يَجُوزُ فِيهَا التَّفَاضُلُ. فَأَمَّا الْأَشْيَاءُ الَّتِي لَا يَجُوزُ فِيهَا التَّفَاضُلُ: فَعِلَّةُ امْتِنَاعِ النَّسِيئَةِ فِيهَا هُوَ الطُّعْمُ عِنْدَ مَالِكٍ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الطُّعْمُ فَقَطْ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَطْعُومَاتُ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، فَإِذَا اقْتَرَنَ بِالطُّعْمِ اتِّفَاقُ الصِّنْفِ حُرِّمَ التَّفَاضُلُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَإِذَا اقْتَرَنَ وَصْفٌ ثَالِثٌ وَهُوَ الِادِّخَارُ حُرِّمَ التَّفَاضُلُ عِنْدَ مَالِكٍ، وَإِذَا اخْتَلَفَ الصِّنْفُ جَازَ التَّفَاضُلُ وَحُرِّمَتِ النَّسِيئَةُ.
وَأَمَّا الْأَشْيَاءُ الَّتِي لَيْسَ يُحَرَّمُ التَّفَاضُلُ فِيهَا عِنْدَ مَالِكٍ فَإِنَّهَا صِنْفَانِ: إِمَّا مَطْعُومَةٌ، وَإِمَّا غَيْرُ مَطْعُومَةٍ. فَأَمَّا الْمَطْعُومَةُ فَالنَّسَاءُ عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ فِيهَا، وَعِلَّةُ الْمَنْعِ الطُّعْمُ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمَطْعُومَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِيهَا النَّسَاءُ عِنْدَهُ فِيمَا اتَّفَقَتْ مَنَافِعُهُ مَعَ التَّفَاضُلِ، فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ شَاةٌ وَاحِدَةٌ بِشَاتَيْنِ إِلَى أَجَلٍ إِلَّا أَنْ تَكُونَ إِحْدَاهُمَا حَلُوبَةً وَالْأُخْرَى أَكُولَةً، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ يُعْتَبَرُ اتِّفَاقُ الْمَنَافِعِ دُونَ التَّفَاضُلِ فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ شَاةٌ حَلُوبَةٌ بِشَاةٍ حَلُوبَةٍ إِلَى أَجَلٍ. فَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَتِ الْمَنَافِعُ فَالتَّفَاضُلُ وَالنَّسِيئَةُ عِنْدَهُ جَائِزَانِ، وَإِنْ كَانَ الصِّنْفُ وَاحِدًا، وَقِيلَ: يُعْتَبَرُ اتِّفَاقُ الْأَسْمَاءِ مَعَ اتِّفَاقِ الْمَنَافِعِ، وَالْأَشْهَرُ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ، وَقَدْ قِيلَ: يُعْتَبَرُ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ: فَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُ فِي مَنْعِ النَّسَاءِ مَا عَدَا الَّتِي لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ فِيهَا التَّفَاضُلُ هُوَ اتِّفَاقُ الصِّنْفِ اتَّفَقَتِ الْمَنَافِعُ، أَوِ اخْتَلَفَتْ، فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ شَاةٌ بِشَاةٍ وَلَا بِشَاتَيْنِ نَسِيئَةً وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مَنَافِعُهَا.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ: فَكُلُّ مَا لَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ عِنْدَهُ فِي الصِّنْفِ الْوَاحِدِ يَجُوزُ فِيهِ النَّسَاءُ، فَيُجِيزُ شَاةً بِشَاتَيْنِ نَسِيئَةً وَنَقْدًا، وَكَذَلِكَ شَاةٌ بِشَاةٍ، وَدَلِيلُ الشَّافِعِيِّ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ فِي قَلَائِصِ الصَّدَقَةِ الْبَعِيرَ بِالْبَعِيرَيْنِ إِلَى الصَّدَقَةِ»، قَالُوا: فَهَذَا التَّفَاضُلُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مَعَ النَّسَاءِ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَاحْتَجَّتْ بِحَدِيثِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ»، قَالُوا: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَأْثِيرِ الْجِنْسِ عَلَى الِانْفِرَادِ فِي النَّسِيئَةِ.
وَأَمَّا مَالِكٌ، فَعُمْدَتُهُ فِي مُرَاعَاةِ مَنْعِ النَّسَاءِ عِنْدَ اتِّفَاقِ الْأَغْرَاضِ سَدُّ الذَّرِيعَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ سَلَفٍ يَجُرُّ نَفْعًا وَهُوَ يَحْرُمُ، وَقَدْ قِيلَ عَنْهُ: إِنَّهُ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ، وَقَدْ قِيلَ عَنِ الْكُوفِيِّينَ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً اخْتَلَفَ الْجِنْسُ، أَوِ اتَّفَقَ عَلَى ظَاهِرِ حَدِيثِ سَمُرَةَ، فَكَأَنَّ الشَّافِعِيَّ ذَهَبَ مَذْهَبَ التَّرْجِيحِ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَالْحَنَفِيَّةَ لِحَدِيثِ سَمُرَةَ مَعَ التَّأْوِيلِ لَهُ، لِأَنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ الْحَيَوَانُ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً اتَّفَقَ الْجِنْسُ أَوِ اخْتَلَفَ، وَكَأَنَّ مَالِكًا ذَهَبَ مَذْهَبَ الْجَمْعِ، فَحَمَلَ حَدِيثَ سَمُرَةَ عَلَى اتِّفَاقِ الْأَغْرَاضِ، وَحَدِيثَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَلَى اخْتِلَافِهَا. وَسَمَاعُ الْحَسَنِ مِنْ سَمُرَةَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَلَكِنْ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَيَشْهَدُ لِمَالِكٍ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَيَوَانُ اثْنَانِ بِوَاحِدٍ، لَا يَصْلُحُ النَّسَاءُ وَلَا بَأْسَ بِهِ يَدًا بِيَدٍ»، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى عَبْدًا بِعَبْدَيْنِ أَسْوَدَيْنِ، وَاشْتَرَى جَارِيَةً بِسَبْعَةِ أَرْؤُسٍ»، وَعَلَى هَذَا الْحَدِيثِ يَكُونُ بَيْعُ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَصْلًا بِنَفْسِهِ لَا مِنْ قِبَلِ سَدِّ ذَرِيعَةٍ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ نَسَاءً، هَلْ مِنْ شَرْطِهِ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ سَائِرَ الرِّبَوِيَّاتِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ فِي اشْتِرَاطِ ذَلِكَ فِي الْمُصَارَفَةِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ»، فَمَنْ شَرَطَ فِيهَا التَّقَابُضَ فِي الْمَجْلِسِ شَبَّهَهَا بِالصَّرْفِ، وَمَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ قَالَ: إِنَّ الْقَبْضَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ لَيْسَ شَرْطًا فِي الْبُيُوعِ إِلَّا مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ، وَلَمَّا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى الصَّرْفِ فَقَطْ بَقِيَتْ سَائِرُ الرِّبَوِيَّاتِ عَلَى الْأَصْلِ.